الـمدينة العجـيبة | قصة قصيرة

كان يملؤهُ الحزن و التعاسة و الألم ، يشعرُ أن كل شيء ٍ حوله بغيض منفّر . يترقبّهُ الشكّ عند كل منعطف ، في أقصى كل زاوية . متوتِّراً أبداً ، يُنفقُ من ريع اللوحات التي يرسمها و يبيعها على سجائره ِ و صبغات الشّعر و الألوان و الريَّش . ارتضى العُزلة أختاً لعزوبيّته ، جمعَ بينهما في غرفته البعيدة عن المدينة التي طالما أرهقته مشاغلها و أسلمتهُ همومها إلى صداع ٍ أليم ٍ طويل . لكنه يعرف أنهُ لا يطلع في يده التخليّ عنها أو تنكّب محافلها ، تلك التي شغف بها قلبه و امتلأتْ رءتاه بدخّان مصانعها و عوادم سيّاراتها ، تلك التي تزحلقَ بنفايات شوارعها و تعثّرَ في حفر طرقاتها . لقد كانت أثيرته و حبيبة قلبه . و ما كان ليعدل عن هذا الرأي حتى بعد أن ابتلعته إحدى زنزاناتها و حرمته منظر السماء الزاهيّ قرب التلّة كل صباح ، حينما يبتُ أمره و يقرر مسك ريشة الرسم و الشروع في ضرب أول الخطوط على سطح الورقة و في نيّته الخروج بلوحة جديدة ، و لأن المدينة أحزنته و كبّدته ما لا طائل له عليه من أحكام البهتان و الإتهامات الباطلة ، فقد قررَ أن يضفي على رسمته الأولى بعد خروجه السجن ذاك الطابع الذي يعبّر عن حزنه و حنقه و استيائه ، و خطرَ له بعد حين أن ينحي بها بعض المنحى الساخر الناقد . بذل جهداً كبيراً في إعتصار مخّه ، حتى أنه شدّ شعره و كزّ على أسنانه ، في محاولته للخروج بلمحة تختزلُ كل ما في روحه من عجز ٍ و قهر ٍو ضعف ، لكنه ما أفلح . و تضمّختْ أغلب محاولاته عن رسمات ينقصها الإقناع و يلتبسُ فيها الفهم ، فاقدة ً الإثارة . و ظلّ على هذا المنوال إلى أن أطبق الليلُ على تخوم المدينة و أسدلتْ البيوت ستائرها . فكان في لحظة وسن ٍ فريدة ، و رأسه مسطول و ذراعيه خَدِرتان . أمسك الريشة و راح يخطُّ على الورقة على نحو ٍ من النزق و الملل ، و كلما أمعنَ في الرسم ، شدَّ على القلم و ضاقتْ عيناهُ بمكر ، و على شفتيه ابتسامة هزء . و بينه و بين نفسه ، راحَ يردد .. لم يبقَ إلا القليل ، حتى وصل منه الحال أنه صار يغمض عيناً و يفتح ثانية . و قد دفع بفكرة إعداد القهوة بعيداً ، مُصرّاً على أنه لا محالة فارغٌ من إتمام مزحته الكبرى ، و أن ولعاً شديداً تملّكه ، إذْ يستيقظ صباحاً فيجد بين يديه ما يقذفُ به المدينة و أهلها ، فيستوعبون معاناته و يأسفون لمهانته .

استفاقَ صباحاً على صوت عصافير ٍ تُزقزق على نافذته . نفضَ عنه النوم ، و بدا كأنه نسيَّ أمر الرسمة . فغسلَ وجهه و تناول فطوره و دفع بمصراعي النافذة ليرَ مدينته العزيزة و هي تنهضُ من نومها هي الأخرى . غير أن عصفور لئيم بال على رأسه مُجشَّماً إياه معاناة الإتجاه إلى المغسلة مرة ً ثانية . و عندها فقط لاحتْ له الرسمة حجراً يضربُ به المدينة و عصافيرها . فرمى بالمنشفة و أخرجَ اللوحة التي صارعَ لأجلها طيلة الليل ، و إن كان غير مركّزاً مشوشاً أكلهُ النوم في النهاية . و هكذا أرادَ أن يتملّى عروسه التي تلطّختْ بالحِبر و لم تعد عذراء ، التي صبّ فيها جام غيظه و تعاسته ، شاداً على أعصابه زافراً بحرارة كثور . و لا يُفهم بالضبط ما الذي حدث ؟ ، و لعله هو لو قَدِرَ على كبح نفسه للحظة واحدة ما نجح في تفسير الواقعة . فقد انخرطَ بالضحك و القهقهة على حين غِرّة . تطلّعَ إلى الصورة ، فرجفتْ شفتاه و أحسَّ بقنبلة تكاد أن تنفجر في فمه . زمّ شفتيه و هو يضغطُ كفيّه و يكاد يقفز من مكانه . و سُمِعَ بعدئذ ٍ ضحكة عالية مجلجلة تتردد في أرجاء البيت . انقلبَ على إثرها على ظهره و راح يرفصُ و يضربُ بيديه على الكنبة ، شاعراً بدغدغات في خاصِرته . و ظلّ في ضحكه المتصل إلى أن فارقَ الحياة ، و لقد عُثِرَ عليه ميتاً من قِبل خادمة عجوز كانت تتردد على المنزل لتوضيبه و تنظيفه ، فما كادتْ تراهُ مُلقىً على بطنه فاغر الفم حتى انطلقتْ تعوّلُ و تصيح . و جاءتْ الشرطة و نُقِلَ الجثمان إلى المشرحة . و هم في أثناء ذلك كله منشغلون عن اللوحة التي كانت إلى جانبه . و ما أن تم اكتشاف أمرها ، حتى اُتهمَ الميّت بالزندقة و لعانة الوالدين ، و أنه لربما كان يخطط لعمليّة إرهابيّة . إلا أن القدر ، المُحب للسلام ، قد لطف بالمدينة من شرور ذلك اللعين و أنجاها من مكيدته و سوء عمله . و هذا ما تردد بين الناس طويلاً و تناولته وسائل الإعلام بكثافة ، و خطب به المتفوهوّن و أطنبوا في روايته . و قد تم الحجر على بيته و ممتلكاته ، حتى أنها شُمِعّت بالشمع الأحمر . و لم يكفهم ذلك ، إذْ تقرر نبش قبر المتوفى و تعريضه للرائين أمام مشهد ٍ من الناس ، إذْ شاعتْ بين الناس بعد لأي ٍ أحاديث و شائعات شتّى ، من أنه تناهتْ إلى الآذان صوت ضحكات من القبر ، فكان لا بّد من وضع الأمور في نصابها و الحدّ من القيل و القال . و لذلك ، نُصِبتْ مشنقة في وسط المدينة ، عُلّشقَ عليها الميت ثم شّدَ عليه الخِناق و أُحكِمَ حول رقبته الحبل . و راحَ يهتزّ في أعقاب ذلك مُدلدِلاً لسانه كأنما ليسخر ، مما أوحى بفكرة حرقه ، و صار لِزاماً الخلاص منه و من لوحاته البغيضة المحرِّضة في أسرع وقت و للأبد . فأضرموا في جثته النار مُلقينَ بلوحاته في لهيبها المتأجج . و لحسن ِ الحظ نسيه الناس و خفُتَ تردد ذكره حتى انمحى . و إذْ بعاصفة غباريّة رمليّة اجتاحتْ المدينة ذات نهار ، و لما انقضتْ سُمِعتْ القهقهات من كل حدب ٍ و صوب ، و ترجّعتْ الضحكات في كل شِبر ، و انقلبَ الناس على ظهورهم و بطونهم في الأزقة و الأسواق ، حتى يخالُ لمن يُبصرهم أنهم على وشك الإنفجار و التمزّق إلى أشلاء . فقد خارتْ الأحناك و تمزّقتْ الخواصر و كّدتْ الأكف لكثرة الضرب و الدقّ . ثم انسحبوا إلى بيوتهم و هم يزحفون أو يرتكون على الجدران و أعمدة الكهرباء . و في اليوم التالي استمرَ الضحك و خرجَ الناس بسحن ٍ مُرهقة و لكن بطيف ابتسامة بائتة على الشفاه الممطوطة . و تبيّن السبب فبطُلَ العجب . لقد كانت العاصفة تحمل بين ذرّاتها خلايا الرسّام الميّت و ثرى رفاته المجنون ، فأُصيبَ الناس باللعنة ِ أجمعين ..

فُرِضتْ الضرائب على كل مَن يُشاهد في ساعات العمل يضحك ، أو يُداهم في دورات المياه ، مُلقياً رأسه في مقعد المبولة ليكتم ضحكه . عُلّقتْ لافتات تحمل شعارات مثل ” الضحك من غير سبب قلّة أدب .” إلا أن الواقع ظلّ صعباً على السيطرة خارجاً عن مقص الرقيب ، و الذي كان في العادة كَشِراً لا يضحك وجههُ للرغيف الساخن ، مُجلجِلاً في الشارع و المقهى و المدرسة و المصنع بالحشرجاتْ و الشخير الذي يسبقُ الضحك عادة ً . و استمرّ الحال على ما هو عليه إلى أن لعلعَ الرصاص في الجو و طالتْ الإعتقالات كل فمٍّ يهرّب الضحكات ، فامتلأتْ السجون بالناس .. شيوخاً و شباباً و أطفالاً ، و أفرغتْ المدينة محتوياتها في السراديب و الزنازين ، كأنما اللعنة نفسها تستحضِرُ خطيّة الرسام الضاحك .

خرجَ الناسُ من سجنهم و مشوا في الأرض ِ سائحين ينوحوّن ، بكوا بأعين ٍ محمّرة و وجوه ٍ مغضّنة ، فاخضّلتْ لحى الشيوخ و ضربتْ النساء على صدورهن مولوِلات و أطرقَ الرجال رؤوسهم حزانى منكوبين . و بكى الأطفال في الأزقة و الملاهي . ذرفوا الدمع بحرارة و لوّعة تُقطّع القلب ، ينشجونَ مقرفصينَ مغطيّن وجوههم بالسواعد . و قطرة ً وراء قطرة ، تشكّلتْ السيول الصغيرة ، التي ما لبثتْ أن اجتمعتْ و تحوّلتء إلى نهر ٍ كبير اجتاح المدينة ، يرفِدُ بكل دمعة ذرفها العين . و متى بكى الناس كثيراً ، إذْ بطوفان هائل يُغرِقُ الشجر و الحجر و البشر في آخر المطاف ، فلم يعد هنالك من سكّان إلا نفرٌ قليل حزم متاعه و فرّ هارباً .

دارتْ الأيام و أهلَّ أناسٌ جدد إلى المنطقة ، فأقاموا مدينتهم و نهضوا بالعمران . زرعوا الأراضي و شقوّا الطُرق ، ثم لم يمض ِ وقت طويل إذْ أصابتهم اللعنة القديمة و هم عن كنهها غافلون . فلقد أكلوا من الزرع ، و انشبّ الضحك في حلوقهم كما حدثَ للذين سبقوهم ، فأفرغَ رقصاته في صدورهم و بطونهم ، و راحوا يتقلبون على جنوبهم . و منذ ذلك الحين ، سُنّتْ القوانين التي تحرّم الزراعة و تمنع غرس فسيلة في الأرض . و أقبلتْ المدينة تستورد بضائعها و موادها الغذائيّة من الخارج ، قابضة ً على أي مخالف أو معارض لحكمها ، تسوّلُ له نفسه خرق القوانين ، و تزجّه السجن .

و ها قد انقضى وقتٌ طويل و لم تشرّش شتلة في الأرض . جاع الفلاحون و هَزُلتْ مواشيهم ، و ازدحمتْ المتاجر و الحوانيت بالمنتجات المستوردة مرتفعة الثمن . بات الناس في ضيق و ضنك ، في وجوههم عبسٌ و على شفاههم ضحكات ٍ سخيفة صفراء ، ينامون و لا ينامون ثم يصحون سكارى .

لكنهم طالما منوّا أنفسهم أشدّ الأمنية ، و لو بينهم و بين أنفسهم ، بالسنابِل الخضراء و الأفرع الباسقة و الثمر المحمول . آه لو تنموا في أرضهم مجدداً و تُفرّع ، آه لو يضحكون ! .

معتصم رزق

0 التعليقات:

المتابعون