ذاكرة باتجاهين | العلم يبحث في القدرة على قراءة المستقبل

تبين آخر الدراسات أنه بإمكان الناس أن تكون على دراية مسبقة بأحداث ستقع في المستقبل، في رواية “أليس في بلاد العجائب ” لـ لويس كارول والتي تحول إلى فيلم في عام 2010 تخبر الملكة البيضاء الفتاة (أليس) ومن خلال رؤيتها في المرآة أن “الذاكرة تعمل في كلا الاتجاهين” في مملكتها . إذ ليس بإمكانها فحسب تذكر أموراً حدثت في الماضي لكنها أيضاً تتذكر ” أموراً حدثت في الأسبوع بعد القادم “، فتجادل (أليس) الملكة قائلة :” أنا متأكدة من أن ذاكرتي لا تعمل إلا باتجاه واحد …إذن لا يمكنني تذكر أمور قبل حدوثها ” ، فترد الملكة عليها:” “لديك نوع ضعيف من الذاكرة يعمل للوراء فقط !”.

كم ستكون حياتنا أفضل بكثير لو استطعنا العيش في أرض الملكة البيضاء حيث ستعمل ذاكرتنا إلى الأمام والوراء ؟ على سبيل المثال ، في عالم كهذا يمكنك أن نخضع لإمتحان ومن ثم نقوم بالتحضير له بشكل أمامي لكي نكون متأكدين من تحقيق أداء جيداً فيه في الماضي.

من حسن الحظ أن هناك خبراً ساراً في هذا الشأن وهو مبني على سلسلة من الدراسات العلمية الأخيرة التي قام بها (بيم داريل)، فنحن فعلاً نعيش في هذا العالم !

تجارب د. بيم

أجرى د.بيم وهو طبيب في علم النفس الإجتماعي من جامعة كورنيل سلسلة من الدراسات التي نشرت في إحدى المجلات المرموقة في علم النفس وهي (مجلة الشخصية وعلم النفس الاجتماعي)، حيث قام د.بيم باختبار فكرة أن أدمغتنا لا تعكس فقط تجارب الماضي الذي عشناه بل أيضاً تتوقع التجارب المستقبلية وذلك من خلال إجراء 9 تجارب ، وغالباً ما يشار إلى القدرة التي يستطيع الدماغ من خلالها “رؤية المستقبل” بـ “ظاهرة بساي” Psi Phenomena أو قدرات نفسانية .

وعلى الرغم من إجراء بحث سابق حول “ظاهرة بساي” – معظمنا شاهد صور من الأفلام حول أناس يحدقون في بطاقات زينر مع أشكال النجمة والخطوط المموجة – فإنه غالباً ما تفشل مثل تلك الدراسات في تلبية الحد الأدنى لمتطلبات “التحقيق العلمي”، لكن دراسات د.بيم كانت فريدة من نوعها من حيث أنها تمثل تطبيقاً للأساليب العلمية القياسية كما أنها تعتمد على المبادئ الراسخة في علم النفس، وفي الأصل أخذ د.بيم بعين الإعتبار تلك المؤثرات التي تعتبر صحيحة وموثقة في علم النفس والتي تدرس طرق تحسين الذاكرة وأزمنة الإستجابة وتأثير الذاكرة الكامنة Priming Effect ( ذلك النوع من الذاكرة الذي يجعل الناس مثلاً يعرفون كيف يربطون أحذيتهم أو يركبون دراجتهم بدون التفكير الواعي بتلك الأنشطة) لكنه ببساطة قام بعكس تسلسلها الزمني.

على سبيل المثال ، نعلم جميعاً أن التدرب على مجموعة من الكلمات يجعلها سهلة التذكر (إسترجاعها من الذاكرة) في المستقبل ، ولكن ماذا لو حدث العكس : التدرب بعد التذكر ؟

- في إحدى الدراسات ، وزعت قائمة من الكلمات على مجموعة من طلاب الجامعات وبعد قراءتهم لها خضعوا لإختبار التذكر المفاجئ بهدف معرفة عدد الكلمات التي نجحوا في تذكرها ، ولاحقاً اختار كومبيوتر بشكل عشوائي بعض الكلمات من القائمة للتمرن عليها ومن ثم طلب من المشاركين إعادة كتابتها لعدد من المرات .وأظهرت نتائج الدراسة أن الطلاب حققوا أداء أفضل في التذكر في إختبار التذكر المفاجئ مقارنة مع خضعوا له لاحقاً من تزويدهم بكلمات عشوائية للتدرب عليها ، ووفقا لـ د. بيم ، فإن التدرب على الكلمات بعد الإختبار سمح للمشاركين بـ “العودة إلى الوراء في الزمن لأداء التذكر “.

تجربة الذاكرة الكامنة ذات الأثر الرجعي

وفي دراسة أخرى ، إختبر د.بيم إمكانية عكس تأثير الذاكرة الكامنة Priming Effect المعروف. وفي تلك الدراسة النموذجية عرضت صور على المشاركين وطلب منهم تحديد فيما إذا كانت تكثل صوراً سلبية أم إيجابية . فمثلاً إذا كانت الصورة لهريرة محببة فيفترض أن يقوم بالضغط على زر “ايجابي Positive” وإذا كانت الصورة لديدان على لحوم متعفنة ،فيفترض به أن يقوم بالضغط على زر “سلبي ” Negative.

وكان عدد كبير من البحوث قد أثبت مدى قوة تأثير الذاكرة الكامنة في تسريع إكتساب القدرة على تصنيف الصور مع أن العقل الواعي لا يعي ما يراه ، يحدث تأثير الذاكرة الكامنة عندما تومض كلمة بسرعة (فلاش) على شاشة الكومبيوتر إلى درجة أن عقلك الواعي لا يتمكن من إدراكها لكن العقل اللاواعي يدركها وإذا طلب منك أن تخبر عما رأيت فإنك لن تكون قادراً على ذلك. لكن عميقاً في عقلك اللاواعي ترى الكلمة وتعالجها ، في الدراسات التي تناولت تأثير الذاكرة الكامنة ، نجد دائماً أن الناس الذين سبق لهم أن تعرضوا لذاكرة جزئية مرتبطة بصورة تكون قدرتهم أسرع في التعرف إليها. فمثلاً لو ومضت كلمة “سعيد” قبل صورة الهريرة مباشرة ستقوم بالضغط على زر “إيجابي” بشكل أسرع مما لو ومضت كلمة “قبيح” قبل صورة الهريرة وذلك لأن الذاكرة الكامنة حول كلمة سعيد تجهز عقلك لمشاهدة أشياء سعيدة.

- قام بيم في دراسته للذاكرة الكامنة ذات الأثر الرجعي ببساطة بعكس التسلسل الزمني وذلك عن طريق ومض الكلمة بعد تعرف الشخص على الصورة حيث تظهر صورة هريرة ثم يقرر المشترك فيما إذا كانت إيجابية أو سلبية ومن ثم تعرض عليه كلمة سلبية أو إيجابية . وأظهرت النتائج أن الناس كانوا أسرع في التعرف على الصور عندما أتبعت بكلمة سبق أن كانت جزء من الذاكرة الكامنة ( Primed) ، لذلك لن يقوم المشترك بتصنيف الصورة بشكل أسرع فقط حينما تسبقها كلمة طيبة ولكن أيضاً سيصنفها بشكل أسرع من أن تلحقها كلمة طيبة ، كما لو أن أدمغة المشاركين لحظة إنشغالهم في تصنيف الصور تعلم عن الكلمة القادمة ستأتي وهذا ما يلعب دور في قرارهم.

حجم الأثر وقيمة الدراسة

ما ذكر أنفاً لم يكن سوى مثالين عن الدراسات التي أجراها بيم ، لكن دراسات اخرى أظهرت أنها تملك “آثاراً رجعية” مشابهة .حيث تشير النتائج بوضوح إلى أن الأشخاص الذين لا يمتلكون ما ندعوه بالشفافية أو قدرات تتخطى الإدراك الحسي المعروف يكون لديهم على ما يبدو قدرة على توقع الأحداث في المستقبل.

وهنا يبرز سؤال : ما هو حجم هذا الفرق ؟ هل هي دراسة عن إختبار قد حدث ، أو أن يكون التعرض لكلمة بعد تصنيف صورة أثر ملحوظ أم أنه لا يعد إلا تحسن ضئيل في الأداء ؟ بالأساس نتكلم عن “حجم الأثر” ، وفي الواقع حجم تلك المؤثرات صغير في دراسات بيم فهي لا تشكل إلا إرتفاعاً طفيفاً عن الصدفة (قانون الإحتمالات) ومع ذلك يوجد لدينا عدة أسباب تمنعنا عن تجاهل الأحجام الصغيرة لتلك التأثيرات ، إذ أنها متناسقة للغاية.

أولاً – وجد بيم من خلال دراساته أن بعض الناس يظهرون آثاراً أقوى من الآخرين ، على وجه الخصوص فاقت قدرة أولئك الذين لديهم جانباً من الإنفتاح من أنفسهم للآخرين EXTROVERSION مرتين مقارنة مع المعدل لدى الشخص العادي، وهذا يثبت أنه لدى بعض الناس حساسية أكبر لمؤثرات بساي عن سواهم.

ثانياً – الحجم الضئيل للتأثيرات ليس أمراً غير شائع في تجارب علم النفس (والعلوم الأخرى أيضاً)على سبيل المثال ، أظهرت دراسات بيم أن متوسط حجم تأثير يقدر بـ 0.2 (من مجال يتراوح من 0 إلى 1) وعلى الرغم من أنه صغير نسبياً فإنه كمية كبيرة أو أكبر من بعض الآثار الأخرى في التجارب مثل تأثير العلاقة بين الأسبرين والوقاية من الذبحة القلبية ، أو بين تناول الكالسيوم وكتلة العظام ، ومن جهة أخرى بين الدخان وصلته بسرطان الرئة ، أو استخدام الواقي الذكري والوقاية من فيروس نقص المناعة البشرية (إيدز) ( البوشمان وأندرسون ، 2001). وكما أشار كوهين لها فإن مثل تلك الكميات الصغيرة في التأثير تكتشف عادة في المراحل الأولى من إستكشاف أمر جديد، وهي اللحظة التي بدأ فيها العلماء للتو اكتشاف سبب حدوث ومتى يرجح أنه يحدث.

فيزياء الكم مثال مدهش على توقع المستقبل

حتى إذا سلمنا أن ” ظاهرة بساي ” حقيقية ، فكيف يمكن لنا تفسيرها من دون فهم كامل للزمن والفيزياء ؟ في الواقع تكون تلك الآثار متناسقة جيداً مع الفيزياء الحديثة وتأخذ الزمان والمكان على محمل الجد. على سبيل المثال يعتقد آينشتاين أن الفعل المجرد في مراقبة أمر هنا قد يؤثر على أمر آخر هناك ، وهي ظاهرة وصفها بأنها “فعل شبحي يحدث عن بعد”.

وبالمثل ، أظهر علم فيزياء الكم الحديث أن جسيمات الضوء تعلم ما ينتظرها مستقبلاً وتضبط سلوكها وفقاً لذلك ، على الرغم من أن الحدث المستقبلي لم يقع. على سبيل المثال ، في تجربة الشق المزدوج Double Split Experiment الكلاسيكية اكتشف الفيزيائيون أن جسيمات الضوء تستجيب بشكل مختلف عندما تتم مراقبتها ، لكن في عام 1999 دفع الباحثون تلك التجربة إلى أقصى إمكانياتها متسائلين : “ماذا لو حدثت المراقبة بعد نشر جسيمات الضوء ؟! “. ومما يدعو للدهشة حقاً أن الباحثين وجدوا الجسيمات وقد تصرفت بنفس الطريقة كما لو أنها كانت على علم بأنها على وشك أن تراقب في المستقبل مع أن تلك المراقبة لم تحدث بعد !. (إقرأ عن ذلك في Delayed Choice Quantum Eraser )

يبدو أن هذه الآثار الزمنية المراوغة تتناقض مع ما نعتقده بأنه جزء من المسلمات (الحس المنطقي السليم) حتى أن محاولة فهمها تصيب المرء العادي بالصداع ، لكن الفيزيائيين عليهم قبولها كما هي .وهذا يذكرنا بقول دكتور تشياو وهو عالم فيزياء من جامعة بيركلي حيث قال ذات مرة عن ميكانيك الكم :”انه مناقض تماماً لتوقعاتنا وخارج عن تجربتنا اليومية ، لكن نحن (الفيزيائيون) علينا الإعتياد عليه”.

ومع أن الزمن خطي Linear بالنسبة للبشر لكن هذا لا يعني بالضرورة أنه كذلك ، وعلينا كعلماء جيدين أن لا نترك المعتقدات والإنطباعات المسبقة تترك تأثيراُ على ما نقوم بدراسته من علوم حتى لو كانت تعتبر عن إفتراضاتنا الأساسية (البديهيات) عن كيفية عمل الزمان والمكان (الزمكان).

واقع أم خيال علمي ؟!

إن عمل د.بيم أثار أفكاراً كما يفترض بأن يقوم به العلم الجيد والمبني على الدقة المتناهية ، فطرح أمامنا أسئلة أكثر من إجابات ، فلو جمدنا معتقداتنا حول الزمن وقبلنا بأن الدماغ قادر على الوصول إلى المستقبل فإن السؤال القادم سيكون: “كيف تسنى له فعل ذلك ؟ ” ، وفقط لأن التأثير بدا لنا “خارقاً للطبيعة” لا يعني بالضرورة أنه كان السبب. حيث اعتبرت العديد من الإكتشافات العلمية في وقت ما خارجة عن أرض الواقع وتناسب أكثر الخيال العلمي (مثال على ذلك : الأرض كروية ، العضويات التي ترى بواسطة المايكروسكوب) . ويوجد حاجة للبحوث المستقبلية لإكتشاف الأسباب الفعلية لتلك التأثيرات في الدراسات.

- وعلى غرار العديد من الإكتشافات غير المألوفة في العلوم فإن نتائج بيم سيكون لها تأثير عميق على ما نعرفه ، وعلينا تقبلها كحقيقة ، لكن قد لا تكون تلك الآثار مفاجأة كبيرة بالنسبة للبعض منكم ، لأنه في مكان ما عميق في داخلكم علمتم أنكم ستقرأون عنه هذا اليوم.

0 التعليقات:

المتابعون