القوة الناعمة | هل لازالت موجودة !!

استحفزنى بالأمس اللفظ عندما استعمله أحد أصدقائى فى معرض حديثنا عن الأوضاع السياسية القائمة فى العالم العربى حيث قال لى أن القوة الناعمة المصرية لاتزال متواجدة و أن ما بناه عبد الناصر من أركان لتلك القوة الناعمة تتحصل الدولة – أو بالأحرى يتحصل النظام – حتى الآن بعد قرابة 40 سنة على ثمراته.

القوة الناعمة هى اصطلاح انجليزى – كما هو الحال فى كثير من المصطلحات السياسية – قصد به التأثير الغير عسكرى و الغير عنيف لمجتمع على آخر بسبب جاذبية الأول أو قدرته على ابهار الثانى بلا عنف.
و على ما أعتقد فقد ظهر هذا المصطلح أثناء الحرب الباردة عندما تشابكت المصالح و تعددت الأطراف و عرف المتحاربون مواطن ضعف و قوة كل منهم و كان المعسكر الغربى طبعا سباقا و متفوقا بما أطلقوا عليه قوة ناعمة، أى جاذبية فكرة الحرية و التعددية و انفتاح الأعمال الفنية على كل القضايا بلا رقابة مع قدرة التأثير الثقافى من خارج الحدود بالصورة و الصوت على احداث تغييرات صغيرة داخل مجتمعات المعسكر آخر بلا سلاح و لا مواجهات.
و لعل أكثر المناطق على الأرض كلها تأثرا بنموذج تلك القوة الناعمة كان – وقتها – برلين الشرقية المتأثرة تأثرا مباشرا بنصفها الغربى المزروع زرعا داخل اقليم ألمانيا الشرقية. الحقيقة أن الروس قد أخطأوا خطأ بليغا عندما وافقوا على مبادلة جزء من الأراضى التى حرروها بالدم و النار – برلين – بأجزاء أخرى من ألمانيا – منطقة مدينة لايبزج و كيمنتز – لكى يصير للمعسكر الغربى رمز للانتصار على النازية بتملك جزء من عاصمة الدولة المهزومة ذلك أن هذا الجزء كان عاملا حاسما فى دق المسامير المتعددة فى نعش النظام الاشتراكى فى كل أوروبا و لكن هذه قصة أخرى.

نعود الى القوة الناعمة التى قيل أن مصر لا تزال تمتلكها كما يعتقد صديقى و أن عبد الناصر هو منشئها و لنناقش ذلك الأمر بهدوء و موضوعية.
ان وضع مصر العربى كان قبل الحرب العالمية الثانية و منذ اعلان الاستقلال عام 1922 بتصريح 28 فبراير وضعا بالفعل متميزا للغاية ذلك أن المركز العلمى و الاشعاعى العربى فى ذلك الزمان كان لمصر فقط دون سواها و ساعدها فى ذلك انتقال كثيرين من الشوام مبكرا للعمل فيها اما بالصحافة و النشر كعائلات تقلا و زيدان أو عدد من الممثلين المسرحيين أو الكتاب مما أحدث نهضة غير مسبوقة فى الحياة الثقافية المصرية تزامنت مع انشاء الجامعة المصرية قبل ذلك بعدد قليل من السنين و نزوح العديد من الأساتذة و المعلمين المرموقين من أوروبا – بفعل الأزمة المالية الكبرى – الى مصر بغرض العمل فى مؤسساتها الناشئة و سياسة التوسع فى تعليم البنات و العمل على الاسراع بتحديث البلاد – عن طريق فتح الأبواب أمام الطبقة المتوسطة من غير ملاك الأراضى – لتولى الوظائف الحكومية و تمصير الجهاز الادارى الأوسط و ارسال البعثات الى الخارج و تشجيع الأخذ بالأسلوب الأوروبى فى الادارة و التشريع و جاء دستور 1923 تتويجا لكل ذلك و قد كان دستورا أعطى بالفعل المثال على امكانية اعمال أحكام قانونية ملزمة للجميع فى داخل مجتمع لا يزال متخلفا و بالتالى نشأت فى مصر طبقة من الصفوة الفكرية اللا مادية تقود أو تحاول أن تصل الى مراكز القيادة عبر غير الطرق الملتوية و المؤامرات و الدسائس المملوكية فى ظل ملكية دستورية لم يكن لها فى كل الشرق الأوسط من يضارعها أو حتى يدانيها.
و فى خلال تلك المدة ظهرت فى مصر حركة ثقافية كبيرة فى الأدب و الشعر و التأليف الحر و القانون و الفكر السياسى و طبعا استفاد من ذلك الجو الصحى الليبرالى الفكر الدينى أيضا و أفرز المجتمع أفضل انتاجاته فى ذلك الزمان الدى تنتمى اليه كل الشخصيات التى يفاخر المصريون حتى يومنا هذا كل العرب بأصلهم المصرى. أم كلثوم – عبد الوهاب – أحمد شوقى – توفيق الحكيم – السنهورى –أحمد زكى – مشرفة – العقاد – طه حسين – بدوى – بدوى الآخر الخ….
فى ظل هذه الفترة كانت مصر أيضا هى مصنع الرجال و مستودع الخبرة للعالم العربى كله فما من عربى درس فى تلك الفترة الا و كانت دراسته فى مصر و لم يستثن من ذلك حتى أولياء العهد و الأمراء من البيوت المالكة العربية. و تزامن ذلك أيضا مع مشروعات عمرانية و صناعية كبرى كانشاء بنك مصر و شركاته المتعددة و بدأ العرب جميعا ينظرون الى مصر فى كل الأمور نظرة المحتاج الى منقذه و ملاذه و أضحت القاهرة بحق عاصمة الشرق و حاضرة العروبة و تكونت عناصر ما أطلق عليه فيما بعد القوة الناعمة.
و من بعد ازدهار و انتصار مارس الزمن فعله و أدار للبلاد ظهر المجن و قيض لها من أبنائها من أبى الا أن يغير الاتجاه و أن يجرب ما لا تجوز فيه التجربة.
أوقف العمل بالدستور و ألغيت الانتخابات الحرة و معها جميع الأحزاب و أعطيت للقانون أجازة و تقلص دور السلطة التشريعية الى العمل التشريفاتى البحت و ضاقت الصدور بأى رأى مخالف من أقصى اليمين الى أقصى اليسار و تضاءلت الشرعية الدستورية لتحل محلها الشرعية الثورية التى لم تخضع لأى نوع من المساءلة فى أى من قراراتها و وصلت البلاد التى كانت يوما مثالا لما يصبو اليه جيرانها الى حال لا يرغب فيه أحد و توجت كل أعمال الشرعية الثورية بواقعة 5 يونيو.
ان القوة الناعمة التى تحققت لمصر قبل 1952 بدأت المعاول فى هدمها يوم أهدرت الحريات و أوقف الدستور و ضرب الأساتذة و لوحق المعارضون و أفرغت الأشياء من محتواها سواء تعليم أم صحافة أم اعلام بل حتى كتابة التاريخ لم تسلم من عمليات التزوير و الزيف.
و بحكم طبيعة الأشياء فان ما لا يحافظ عليه المرء من ماله يفقد بريقه و يذوى ليبلى فى النهاية و يصبح أثرا منسيا.
و فى موضوعنا هذا اليوم فان هذا التدرج من سىء الى أسوأ لم يحدث بين عشية و ضحاها و انما احتاج الى بعض من الوقت حتى يمكن محو كل أثر لنهضة كانت أو ثقافة سادت. و كانت الفترة الزمنية الممتدة بين 1958 بالوحدة مع سوريا و 1967 بالهزيمة أمام اسرائيل فى حرب – اختارت مصر دخولها طواعية و بلا داع حقيقى – هى فترة التحطيم المنظم لتلك التى أطلقوا عليها القوة الناعمة حيث ظهرت قيم جديدة تنظم علاقات الناس بالدولة و ببعضهم بعضا و قوانين اشتراكية مدمرة لطرفى السوق – منتج و مستهلك – و أصبحت الدولة أقل فهما لما يجرى حولها و فى محيطها العربى و الدولى بسبب تسيد أهل الثقة – رغم كونهم أيضا أهل الجهل – و وضعت البذرة المسمومة للشجرة التى يستظل المصريون اليوم جميعا بظلها.
صحيح أن الهزيمة عام 67 تسببت فى افاقة مؤقتة لبعض الموجودين فى النظام – و أولهم عبد الناصر نفسه – و لكنه كان قد انكسر الى غير رجعة و انتهى تأثير القوة الناعمة بالهزيمة المروعة فى تلك الحرب.
وبعد وفاته فهم السادات أنه لا يمكنه خوض المعارك بذات الأشخاص الذين هزموا قبل ذلك فقام بتغييرهم فى ما سماه هو ثورة التصحيح و كان فيها بالفعل على حق حيث أن ضعف و انكسار الرئيس بعد 67 تسبب فى تجاوزات مذهلة من جانب تلك المجموعة التى أزالها السادات.
و نجح المصريون فى شحذ جهودهم على قلب رجل واحد و استطاعوا الدخول فى حرب جديدة حددت ارادتهم زمانها و مكانها و وصلوا الى ذروة انتصارهم العسكرى بعد أسبوع من شنها.
الغرض من كل هذا العرض هو القول بأن القوة الناعمة التى يكثر فيها الحديث و التى تسلمها النظام الثورى فى عنفوانها قد بدأت فى التآكل بفعل النظام الثورى نفسه حتى أن الدول العربية بدأ كل منها منذ الانفصال عن سوريا – و ربما من قبله أيضا – يبحث لنفسه عن طريق خاص به بعد أن أقنعته تصرفات نظام الثورة أن المصالح لم تعد متفقة و أن قضية بسط النفوذ الثورى و الهيمنة تحتل فى عقل النظام فى مصر اهتماما أكبر من كل ما عداه من قضايا و هنا تنقلب القوة الناعمة – أولا – الى خشنة ان جاز التعبير – و ثانيا – الى عنصر منفر لا عنصر جاذب كما ينبغى للقوة الناعمة أن تكون.
سوريا و السعودية و الأردن لم يكونوا من المسّلمين بتلك القوة الناعمة – التى أضحت خشنة فى حرب اليمن مثلا – على الاطلاق و تونس والمغرب كانتا فى حالة بحث عن طرق بديلة ليس أكثرها غرابة التفكر فى أمر صلح مع اسرائيل. العراق كان بعثيا لا يهادن الثوار فى مصر و معظم الدول الخليجية التى نعرفها اليوم لم تكن موجودة حيث أن بريطانيا ظلت محتفظة بشرق السويس. بقيت ليبيا الى كانت فى يد أمريكية انجليزية و الجزائر الثورية التى ظلت على وفائها لمصر رغم التغيير فى طبيعة القوة.
بقى أن أذكر أن العروض المسرحية الحية على الهواء قبل حرب 67 و التى كان الجمهور يطالب أثناءها رئيس الدولة أن يسب كل رئيس دولة عربية على حدة بهتافات من نوع ” الملك حسين ياريس” بورقيبة يا ريس ” ” الملك فيصل يا ريس ” ثم ينزل الرئيس على رغبات الجمهور و يبدأ فى سب هؤلاء القادة واحدا واحدا من حسين ابن زين الى بورقيبة الملحوس الى نتف ذقن الملك فيصل – أقول أن هذه العروض المسرحية عالية الجماهيرية ساهمت بلا شك فى تحطيم أسطورة القوة الناعمة حيث أثبتت لهؤلاء أن المصريين لا يتمتعون بخلق يميزهم عمن سواهم و أنهم أيضا معرضون للنزول الى الخطأ بل و الخطيئة و أن الدور الذى يّدعونه لأنفسهم انما هو عن غصب و جور ليس عن جدارة متفردة كما عهده العرب من قبل.
أضف الى ذلك انتقال جزء كبير من قواعد الاخوان المسلمين الى السعودية و الخليج ليرووا عن أهوال ما رأوا أو ما رأى زملاء أو أهل لهم و زاد هذا أيضا من انكشاف النظام الثورى فى مصر أمام من كانوا يؤمنون بدور متميز لها فى قلب المنطقة.

و هكذا رويدا رويدا و بفعل أخطاء ارتكبتها مصر فى كل العصور و بالذات فى السياسة الداخلية من اهدار للتعليم الجاد و عدم احترام القوانين و التدخل فى أمور القضاء ( 1968) ثم مصادقة الاتحاد السوفيتى و ربط مصر بمعاهدة صداقة و تعاون (1971) ثم اعادة الخبراء الروس الى بلادهم بكل مهانة بعدها بعام واحد ثم خروج مئات الالاف من المصريين للعمل فى الدول العربية و انكشافهم أمام تلك المجتمعات ثم الصلح المنفرد مع اسرائيل بعد مبادرة صاعقة لكل العرب ثم مجىء نظام جديد ليس له من هم الا الحصول على المساعدة ظاهرة أو مستترة ثم … الى آخر السلسلة المعروفة ، أدى كل ذلك الى اضمحلال الدور المصرى الى مستوى لم يصل اليه منذ عهد الفراعنة و فقد العرب اهتمامهم بقوة مصر بعد أن ضاع دورها و انفرط عقدها.
أى أن النظام الثورى كان المتسبب الأول و الوحيد فى ضياع تلك القوة التى كانت يوما ناعمة و أصبحت اليوم مخزية.
ان جناية النظام الثورى على القوة الناعمة لمصر تشابه جناية ووترجيت أو حكم المحافظين الجدد على القوة الناعمة الأمريكية مع فارق أن لجنة التحقيق فى أمر ووترجيت اتخذت قرارات حقيقية لتقليص سلطة الرئيس من بعد كشف الفضيحة و اثبتوا للدنيا أن التجربة الديموقراطية الأمريكية تصلح مسار ذاتها و الدور قادم على مآسى المحافظين الجدد أما عندنا فلا صوت علا فوق صوت المعركة بل خرجت الجماهير بلفظ قبيح و أبيح تطالب الرئيس القائد بألا يتنحى و البقاء لله فى الناعمة و الخشنة و كل أشكال القوى.
و فى النهاية فان أهم ركن من أركان القوة الناعمة لأى نظام أو لأى مجتمع هو توافر شرط الشرعية. لقد كان النظام شرعيا قبل 52 فازدهرت تلك القوة و علا شأنها. و عندما أخذت الشرعية فى التآكل السريع ثم البطىء ثم السريع مرة أخرى ثم البطىء مرة رابعة و فى النهاية اندثرت ، اندثرت معها حتى أحقية الادعاء بوجود القوة و لو افتراضا – ناهيك عن وجودها واقعا.

0 التعليقات:

المتابعون