مشاهد لا تنسى لـ”أحفاد الفراعنة” في ميدان التحرير
سأحدثكم عن الميدان.. عن الإبداع الذي لم يدره إلا الشباب بوعيهم الخالص.. إنها لقطات قد تبدو في زحام الأحداث عابرة.. ولكنها تعبر عن روح الجماعة التي كثيراً ما شككونا في اختفائها من مجتمعنا، وتباكوا على ما آل إليه شباب مصر.
شباب مصر الذي تفرد بابتكار ثورته التي أذهلت العدو قبل الصديق، فمنذ اللحظة الأولى أعلن الجميع أن ثورتنا سلمية. وتحرشت الشرطة بالمتظاهرين، وواجهتنا بالعنف، فالتزمنا بالعهد الذي عقدناه. كان إذا سقط أحد الجنود من جانبهم بسبب اختناقات غاز القنابل حملناه لإسعافه في مراكز الإسعاف الخاصة بنا، وإذا سقط أحد منا انهالهوا عليه، وأوسعوه ضرباً، وأخذوه معتقلاً.
ولأنهم لم يتعودوا على هذه الثقافة في التعامل، وفوجئوا بلغة الفكر أمام لغة البلطجة، استسلم العنف ولم يقو على المواجهة، استسلم العنف ولم يقو على المواجهة، وانسحبت الشرطة لتمارس دوراً آخر غير الموط بها من حماية للمواطنين.
المشهد الثاني والذي أذهل العالم عندما انسحبت الشرطة وعلم الشباب العزل أن المتحف المصري ينهبه اللصوص فتوجهوا دون تفكير ليكونوا دروعاً بشرياً لحماية الحضارة وصد المعتدين المسلحين، وقد حرك هذا المشهد العالم وعلى رأسهم “أوباما” رئيس أمريكا ليخرج موجهاً خطباً للعالم قائلاً: “لقد رأينا متظاهرين يهتفون: سلمية.. إننا مسالمون”، ودعا ليقول: “المصريون كانوا مصدر إلهام بالنسبة لنا وقد حققوا هذا الأمر مؤكدين عدم صواب فكرة أن العنف هو الوسيلة الأمثل لتحقيق العدالة”.. وأبدى أوباما إعجابه بما رآه من المصريين الذين شبكوا أذرعهم لحماية المتحف الوطني قائلاً: “يجب أن نربي أبناءنا ليصبحوا كشباب مصر”.
المشهد الثالث أثناء الصلاة في ميدان التحرير كانوا محاطين من قبل المسيحيين حتى ينتهوا من صلاتهم ليؤكدوا كذب إدعاء المغرضين الذي أرادوا إفساد العلاقة بين المسلمين والمسيحيين.. المشهد الرابع هو انتباه المسلمين إلى أن التجمع المليوني يعقب صلاة الجمعة فأرادوا أن تحمل الوقفات روح الوحدة والتماسك فكان يوما الجمعة والأحد وقفات مليونية وقرر الجميع أن يصلي المسلمون للشهداء يوم الجمعة وتقام صلاة القداس يوم الأحد بالميدان.. وإنها قيم شكلتها الثورة بين المسلم والمسيحي أمام هدف واحد هو وحدة الشعب ضد البيروقراطية والتعذيب والقتل ونهب الثورات.
المشهد الخامس وهو التنظيم الذاتي عند المداخل المؤدية للميدان.. وهذا النظام الراقي من قبل المتطوعين الشعبيين، والذين كانوا يطلبون منك احترام رؤية إثبات الشخصية. ثم تمر على فرد آخر يستسمحك بالتفتيش لضمان سلامة الثورة بداخل الميدان.. وكان هناك طريق للسيدات تتحقق من شخصيتها سيدة مثلها تعتذر قائلة: إن هذا من أجل سلامة الجميع.. وكان الجميع يشعر بالأمان من هذا النظام الذي أدهش الإعلاميين الأجانب.
إن جمال الثورة ظهر في المشهد الوحشي من الغوغائيين المقربين من السلطة والذين استئجارهم من البلطجية وأفراد من الأمن بزي شعبي لاعتقادهم أنهم يستطيعون ترويع الثوار بالتحرير.. ففي بداية التحرش كانت الهتافات من الميدان تعلو: سلمية.. سلمية وكان الغوغائيين يقتحمون الميدان بالخيول والجمال والأسلحة البيضاء والنارية.. فيدافع الشباب العزل بشجاعة ويتم إلقاء القبض على بعضهم دون التعرض لهم بالضرب رغم الإصابات التي تلقوها منهم وسقوط شهداء، ويسلمونهم للجيش. هذا المشهد من أنبل المشاهد الذي أضيف إلى سلوكيات الثورة.
المشهد اللافت وسط هذه الحشود الكثيرة، كان يفعله الكثير منا شراء بعض الأطعمة الشعبية والمرور بها وسط الثوار ليواصلوا نضالهم فكان الجميع لا يتقدم إلا عندما يشعر باحتياجه الشديد لبعض من الطاقة وكان عفيفاً لا يأخذ إلا القليل الذي كان في بعض الأحيان بلحتين أو قطعة من الخبز.. وكثيراً ما كان يمر بهذه الأطعمة أطفال ونساء وبنات.. كان لدى الجميع حضور فطري بما يجب ان يفعله دون تنظيم مسبق. أذكر على سبيل المثال عندما حلقت الطائرات للمرة الأولى في سماء التحرير، فكان الهتاف التلقائي: “مش هنمشي.. هو يمشي”.. أيضاً عندما كان يحضر لهم أحد المهاجمين للثورة محاولاً ركوب الموجة فكانوا يرفضون اعتذاره وعدم السماح بدخوله.
أذكر أيضاً عندما جاء قائد القوات المسلحة وتكلم من فوق منصة الميدان قائلاً: “أنا قلق أن يتلاعب بكم”.. فرددنا عليه بهتاف تلقائي أيضاً: “ثورة.. ثورة حتى النصر.. ثورة في كل شوارع مصر”.
المشهد الرائع الذي أبهر حتى بلطجية الجانب الآخر مشهد متكرر طوال أيام الثورة وهو تحرك الشباب والفتيات بأكياس القمامة يرفعون من أرض التحرير الورق والأكياس الفارغة حتى بقايا السجائر ليتوجوا هذا المشهد باحتفالية النظافة بعد خلو التحرير من الثوار.. فريق يجمع القمامة، وفريق يروي المساحات الخضراء، وفريق يدهن الرصيف، وانطلقت الحملة لتشمل كل شوارع القاهرة، وحتى بعد أن عاد شباب الأقاليم من التحرير أعلنوا الانضمام إلى حملة النظافة في شوارع محافظاتهم ليأكدوا صدق إيمانهم بمطالبهم ليستحقوا ما قاله عنهم رئيس وزراء إيطاليا: “لا جديد في مصر.. فقد صنع المصريون التاريخ كالعادة”.. ويرد عليه رئيس وزراء بريطانيا: “يجب أن ندرس الثورة المصرية في المدارس”.. ليشاركو هاينز فيشر رئيس النمسا: “شعب مصر أعظم شعوب الأرض.. ويستحق جائزة نوبل للسلام”.
وتقدم السي إن إن اعترافاً توثيقياً: “لأول مرة في التاريخ نرى شعباً يقوم بثورة ثم ينظف الشوارع بعدها”.

0 التعليقات:

المتابعون