المرأة ذات الفرج المقلوب – شرح تفصيلى

تشريح

كيف بنى العرب القدامى الاختلافات التّشريحيّة والفيزيولوجيّة بين الجنسين، وما هي مدلولات هذا البناء؟ وما الذي جعلهم يتصوّرون أنّ للمرأة عضوا ذكوريّا باطنيّا أو “فرجا مقلوبا” حسب تعبيرهم؟ وما العلاقة بين هذا العضو المفترض والعضو الصّغير الآخر غير المفترض، وهو البظر؟

هذه الأسئلة توجّهنا إلى دائرة في البحث تغيّبها الدّراسات النّسائيّة والدّراسات الجندريّة لأنّها تقفز على الفوارق الجسديّة بين الجنسين لتهتمّ بالفوراق الثّقافيّة، أي لما يعود إلى التّنشئة الاجتماعيّة من اختلافات تراتبيّة وسلطويّة أساسا، والسّرّ في ذلك يضيق عنه مجال هذا البحث، أو لعلّ القارئ يتبيّنه في نهايته.

نكتفي هنا بالإشارة إلى أنّ من مظاهر تغييب الاختلاف الجنسيّ في الأبحاث العلميّة العربيّة المصير الذي لقيه كتاب توماس لاكور Thomas Laqueurوعنوانه”مصنع الجنس : الجنس والجندر من الإغريق إلى فرويد”، وقد صدر سنة 1990 بالإنكليزيّة[i] وسنة 1992 بالفرنسيّة.[ii] هذا الكتاب الذي سننطلق منه وسنحاول محاورته على ضوء النّصوص العربيّة من ناحية، والتّحليل النّفسيّ من ناحية ثانية، لم يترجم إلى اليوم إلى العربيّة، ولم أجد له أثرا في الكمّ الهائل من الأبحاث الصّادرة عن المرأة أو عن تاريخ العلاقات بين النّساء والرّجال، رغم أهمّيّته ودقّته، ورغم أنّ صدوره مثّل حدثا مهمّا في تاريخ الفكر الطّبّيّ والتّشريحيّ وفي تاريخ التّصوّرات الغربيّة عن الجسد البشريّ.

ويمكن أن نذهب أوّلا إلى أنّ أهمّ النّتائج التي توصّل إليها لاكور في فضاء الفكر الغربيّ شبيهة في مجملها بالنّتائج التي يتوصّل إليها الباحث في فضاء الفكر العربيّ، وإن كنّا نفتقر إلى اليوم إلى دراسة ضافية للموضوع، في مثل جودة دراسة لاكور، ونقرّ بأنّ هذا البحث لا يسدّ هذا النّقص بقدر ما يقترح مقدّمات إليه.

توصّل لاكور في رصده للتّحوّلات في تاريخ المعرفة عن الجسد، إلى أنّ الاختلاف بين جسمي المرأة والرّجل مغامرة حديثة لم يخضها مفكّرو الغرب إلاّ في حدود القرن الثّامن عشر، وأنّ نموذج الجنس الواحد modèle uni***eالمأخوذ عن الإغريق هو الذي ساد الفكر الغربيّ. يقول معرّفا بهذا النّموذج : “نموذج الجنس الواحد الذي سيطر على الفكر التّشريحيّ طيلة ألفي عام فهم المرأة على أنّها رجل معكوس : فالرّحم هو مثانة المرأة، والمبيضان خصيتاها، والشّفرتان قلفتها، وفرجها عبارة عن عضو ذكوريّ.”[iii]

كما قام هذا النّموذج على التّناظر شبه التّامّ بين الرّجل والمرأةفي عمليّة الإنجاب، فالجنسان يخضعان إلى نظام قذفيّ انتشائيّ واحد، ولكلّ منهما منيّ يساهم في الانعقاد (أي تكوّن الجنين). كان جسد المرأة صنوا لجسد الرّجل في التّشريح وفي نظام الأخلاط، أو إن شئتم كانت المرأة رجلا معكوسا يحمل أعضاء الذّكورة في الدّاخل لا في الخارج، لافتقارها إلى الحرارة الحيويّة التي يمكن أن تدفع بأعضائها إلى الخارج. هذا التّصوّر الموروث عن أبقراط وجالينوس كان معارضا إلى حدّ ما للتّصوّر التّكامليّ التّراتبيّ الرّاجع إلى أرسطو. لقد جذّر هذا الفيلسوف الاختلافات بين الجنسين فجعل المرأة عاجزة عن إنتاج المنيّ، وجعل دورها مقتصرا على توفير المادّة الدّمويّة التي تظلّ في الرّحم منتظرة إلى أن يمنحها السّائل المنويّ الذّكوريّ الصّورة. ورغم مكانة أرسطو في الفكر الغربيّ، فإنّ الغلبة كانت لنظريّة الجنس الموحّد التّناظريّة على نظريّة أرسطو التّكامليّة. ومن النّتائج المهمّة التي خرج بها لاكور أنّ الفوارق الاجتماعيّة والثّقافيّة بين الجنسين، أو ما يمكن تسميته بالجندر، كانت أهمّ من الاختلاف الجنسيّ.

ونكاد نجد اللّوحة نفسها لدى الأطبّاء والكتّاب العرب الذين كانوا ورثة للطّبّ اليونانيّ. فبقدر ما كانت ثنائيّة المذكّر والمؤنّث محوريّة في المجتمع، وبقدر ما كانت الأدوار الاجتماعيّة موزّعة بوضوح وموضوع رقابة مشدّدة[iv]، تعكس التّصوّرات التّشريحيّة والفيزيولوجيّة االعالمة نظريّة في الجنس الواحد، كانت هي السّائدة. فمن النّاحية التّشريحيّة، يقول ابن سينا (ت 428هـ): ” نقول إنّ آلة التّوليد التي للإناث هي الرّحم، وهي في أصل الخلقة مشاكلة لآلة التّوليد للذّكران، وهي الذّكر وما معه، لكنّ إحداهما تامّة متوجّهة إلى خارج، والأخرى ناقصة محتبسة في الباطن، فكأنّها مقلوب آلة الذّكران، وكأنّ الصّفن صفاق الرّحم، وكأنّ القضيب عنق الرّحم، والبيضتان للنّساء كما للرّجال، ولكنّهما في الرّجال كبيرتان بارزتان متطاولتان إلى استدارة، وفي النّساء صغيرتان مستديرتان إلى شدّة تفرطح، باطنتان في الفرج، موضوعتان عن جنبيه في كلّ جانب من قعره واحدة، متمايزتان يختصّ بكلّ واحد منهما غشاء لا يجمعهما كيس واحد، وغشاء كلّ واحدة منهما عصبيّ. وكما أنّ للرّجال أوعية للمنيّ بين البيضتين وبين المستفرغ من أصل القضيب، كذلك للنّساء أوعية للمني بين الخصيتين وبين المقذف إلى داخل الرّحم…”[v]

ونجد هذا التّصوّر لدى المصنّفين لكتب الباه، إذ يقول التّيفاشيّ صاحب كتاب “نزهة الألباب”: “… آلات التّناسل في الإناث موضوعة داخل البطن ومطبوعة على الميل إلى ما هناك. وأمّا الذّكر فخارج البطن مجبولة ومطبوعة على الميل إلى ما هناك”.[vi]

ومن حيث الوظيفة، أي من النّاحية الفيزيولوجيّة، إذا استثنينا بعض الفلاسفة الأوائل[vii] ممّن ينحون نحو أرسطو في اعتبار الجنين يتولّد من منيّ الرّجل ودم المرأة، أمكن لنا القول بأن نظريّة ازدواج المنيّ كانت هي السّائدة. انتقد الأطبّاء العرب تصوّر أرسطوطاليس، كما انتقده جالينوس، وانتقدوه في نقطة أساسيّة هي سلبيّة دور المرأة في الإنجاب، ونفي المنيّ عنها. يقول ابن سينا في كتاب الطّبيعيّات: “واعلم أن الولادة إنما تكون إذا توافى الزّرعان من الذكر والأنثى معا، فان اختلف الوقتان لم يعلق…والمرأة والرجل يحتلمان جميعا ويصبّان المنيّ كل على نحو صبه. أقول: إنّه لا عذر لمن يسمع هذه الفصول وغيرها، ثم يظن أن المعلّم الأول يقول بأن المرأة لا تصب فضلة نطفية…”[viii] ولم يقتصر هذا الرّأي على الأطبّاء، بل إنّنا نجده لدى فقيه كالغزالي، فقد اعتبر ماء المرأة “شرطا في الانعقاد”[ix] ومتصوّف كابن عربيّ فقد خالف “أهل علم الطّبائع” في قولهم بأنّه “لا يتكوّن من ماء المرأة ولد” واعتبر أنّ عيسى بن مريم “من ماء أمّه” فحسب.[x]

بل ربّما قطع الأطبّاء شوطا أبعد في الأخذ بنموذج الجنس الواحد، لأنّهم عندما تحدّثوا عن أمراض الرّحم، وهي المتسبّبة في الهستيريا حسب تصوّرات أطبّاء الإغريق، ذكروا اختناق الرّحم النّاجم عن انحباس دم الطّمث أو المنيّ، ولم يستبعدوا أن يصاب الرّجل بالأعراض النّاجمة عن هذا النّوع من الهيستيريا: يقول الرّازي (ت313 هـ): “… فإنّه كما يعرض للرّجال الكثيري المنيّ عند ترك الجماع من القلق وثقل الرّأس وسقوط القوّة والشّهوة كذا ليس ينكر أن تعرض أعراض أشدّ من هذه لهؤلاء النّسوة…”[xi]

فما نسمّيه “الشّرق” ونقصد به العالم العربيّ قد اشترك مع “الغرب” في إنتاج أو إعادة إنتاج التّصوّرات التّشريحيّة نفسها، ونسبوا إلى المرأة عضوا ذكوريّا مقلوبا ومنيّا. وربّما يتّضح لنا الآن تنسيب عبد الكبير الخطيبيّ لأهمّيّة الاختلاف الجنسيّ في القرآن، وقوله: “لكي نحسن تحديد موقع “الجنسانيّة” في الإسلام، يجدر بنا أن نعتبر الاختلاف الجنسيّ ثانويّاإذا ما قورن بالاختلاف بين الإيمان والكفر، وبين الوجود المطلق للواحد، و”إشراك” أيّ ثالوث أو آلهة أخرى أو عبادات وثنيّة به.”[xii]

ويمكن الآن أن نحاول التّأويل وأن نتساءل عن أسباب غلبة نموذج الجنس الواحد غربا وشرقا وطيلة قرون طويلة، فلا تكفي عوامل التّداخل الثّقافيّ وتناقل الإرث الطّبّي اليونانيّ في تفسيرها. كيف يمكن أن نفهم إصرار المنظّرين القدامى للجسد على اعتبار فرج المرأة أيرا، وإصرارهم على عدم النّظر إلى الاختلافات التي تنتج الاختلاف الجنسيّ رغم وبعد كلّ ازدواجيّة جنسيّة بيولوجيّة أوّليّة؟

لقد انتبه لاكور إلى حدّ ما إلى طبيعة هذا الإصرار، وامتنع عن تفسيره بعامل قصور الذّكاء العلميّ لدى القدامى، لأنّه إصرار من لا يريد أن يرى، وليس إصرار من عجز عن الرّؤية. إنّه “عنت” أو “عمى” علميّ وصفه قائلا : “كان بإمكان التّشريحيّين أن ينظروا إلى الأجساد على نحو مختلف-كأن يعتبروا فرج المرأة شيئا مختلفا عن العضو الذّكوريّ-ولكنّهم لم يفعلوا هذا لأسباب ثقافيّة. ثمّ إنّهم لم يبالوا بالمعطيات التّجريبيّة-بالأدلّة مثلا على إمكان الحبل بدون انتشاء-لأنّ هذه المعطيات لم تكن تتّفق مع أيّ جدول علميّ أو ميتافيزيقيّ.”[xiii]

ولكنّ تفسير لاكور لهذا العنت لم يكن بحجم العنت نفسه. لقد قدّم عاملين مختلفين لتفسير نموذج الجنس الواحد وطول عمره، العامل الأوّل ثقافيّ ويتمثّل في تسليط الثّقافة نظامها ومراتبيّتها على عالم الأجساد من الخارج، بحيث أنّ الأجساد مجسّدة لأفكار وغير محدّدة، والعامل الثّاني له علاقة بالسّلطة المرتبطة بالجنس: فهذا النّموذج يقوم دليلا على أنّ الرّجل هو مقياس كلّ شيء، وأنّ المرأة “ليس لها وجود باعتبارها مقولة أنطولوجيّة منفصلة”.[xiv]

إنّنا نرى أوّلا أنّ هذا التّفسير ليس مميِّزا مخصِّصا، فهو ينطبق على كلّ التّصوّرات التّشريحيّة القديمة، ولا ينطبق فحسب على نظريّة الجنس الواحد وفكرة العضو الذّكوريّ للمرأة. فالرّجل كان المقياس مثلا في نظريّة أرسطو التي تعتبر المرأة رجلا منقوصا ضعيفا. ونرى ثانيا أنّ عامل الهيمنة الذّكوريّة لا يكفي لتفسير هيمنة هذه النّظريّة وطول عمرها. لا شكّ أنّ تصوّرات الجسد لا يمكن أن تفلت من نظام الهيمنة الذّكوريّة باعتباره ركنا أساسيّا من أركان الحضارات التّقليديّة. إلاّ أنّ النّظريّة التّشريحيّة الأقدر على توفير دعامة تبريريّة إيديولوجيّة له ليست نظريّة الجنس الواحد، بل النّظريّة الثّنائيّة الأرسطوطاليسيّة بما أنّها تقوم على الفصل التّامّ بين الجنسين، وبما أنّ التّراتبيّة بين الجنسين أوضح فيها. ولو تأمّلنا مكوّنات هذه النّظريّة لوجدناها في تطابق تامّ مع آليّات قمع النّساء: فالإعلاء من شأن الأمومة على حساب الأنوثة يتطابق مع حديث أرسطو عن الوعاء السّلبيّ الذي توفّره المرأة، والاعتقاد في نقص النّساء عقلا ودينا يمكن أن يستند إلى تصوير أرسطو المرأة على أنّها كائن مجبول على النّقص والمرض. وهو ما يفسّر عودة الخطباء الإسلاميّين اليوم إلى النّموذج الأرسطوطاليسيّ، ربّما بصفة لاشعوريّة، ليجعلوا المرأة “سلبيّة” والرّجل “إيجابيّا”، وليجعلوا المرأة الكائن الوحيد المجبول على الخصاء والنّقص.

فعندما يتعلّق الأمر بأفكار ملحّة رغم أنّ الإدراك والواقع التّجريبيّ يكذّبانها، تبدو لنا العوامل النّفسيّة أعمق وأكثر تجذّرا من عامّة العوامل المعرفيّة والثّقافيّة، ويبدو لنا الحديث عن العنت اللاّواعي أكثر جدوى من الحديث عن “خطإ يكذّبه الفهم وتكذّبه التّجربة”. ربّما تقف هنا حدود البحث في تاريخ الفكر، ليبتدئ التّساؤل عن تجذّر الفكر في اللاّمفكّر فيه، أي فيما يرفض التّفكير فيه، وفي علاقة الفكر بالجنسانيّة وبالكبت.

هذه الخطوة هي التي لم يقم بها لاكور، نظرا إلى المنزلة التي خصّ بها التّحليل النّفسيّ ومؤسّسه فرويد. ففي هذا الكتاب لم يكن فرويد ندّا ومحاورا بإمكانه تقديم مبدإ تفسير للعضو الذّكوريّ النّسائيّ ولنموذج الجنس الواحد، بل كان موضوع دراسة من بين المواضيع المختلفة. لقد خصّص لاكور لفرويد فصلا أخيرا وقدّمه على أنّه وريث لنموذج الاختلاف الجنسيّ الحديث و”مطيح به” في الوقت نفسه، نتيجة فرضيّته في الأحاديّة اللّيبيديّة.

فنظريّة النّموذج الواحد لا تعدو أن تكون نظريّة جنسيّة ولكنّها من صنع الكبار، لا الأطفال، أو من صنع الكبار من حيث أنّ الطّفولة النّفسيّة تلاحقهم من المهد إلى اللّحد.

هذه الأبنية المفهوميّة المنتجة لنموذج الجنس الواحد تنطق ولا شكّ عن فكر قائم على التّناظر وعلى منطق الهويّة، واختزال المختلف، ولكنّنا نجد فيها أصداء لهوام المرأة ذات العضو الذّكوريّ، وهو هوام تبيّن مختلف الميثولوجيات والتّعبيرات الفولكلوريّة والأحلام أهمّيّته منذ العهود السّحيقة وفي كلّ مكان. إنّ الأساس في نظريّة الجنس الواحد هو نفي خصاء المرأة ومنحها أيْرا داخليّا قد لا يرى، أو لا يهمّ أنّه يرى أو لا يُرى ولكنّه يفترض، ولذلك ليس من الإجحاف اعتبارها شبيهة من حيث الوظيفة بأولى النّظريّات الطّفوليّة الجنسيّة الثّلاث التي وصفها فرويد سنة 1908 [xv]: “أولى هذه النّظريّات الجنسيّة ترتبط بإهمال الاختلافات بين الجنسين، إهمالا نبّهنا منذ البداية إلى أنّها من خصائص الأطفال. وتتمثّل هذه النّظريّة في إسناد عضو ذكوريّ كالذي يعرفه الصّبيّ انطلاقا من جسده إلى كلّ الكائنات البشريّة بمن في ذلك الكائنات الأنثويّة.” وفي الصّفحة نفسها، وقبل أن يتحدّث سنة 1937 عن “صخرة الأصل”[xvi] كتب فرويد: “وبعد ذلك يعود تصوّر المرأة ذات الذّكر إلى الظّهور من جديد في أحلام الكهول.”[xvii]

إنّها أحلام يقظة، أحلام كهول تلبس قناع البناء المفهوميّ العالم وتسمح بمداراة الخوف من الثّغرة المخيفة التي يمثّلها العضو الأنثويّ “بطريقة ملتبسة، إمّا لأنّه يصبح مصدر التّهديد للعضو المتّهم، أو لأنّه على العكس يمثّل نموذجا لاختفاء العضو.”[xviii] كان الرّجال إذن مستسلمين إلى هوامات وتخاييل نظريّة تجعل المرأة كائنا مماثلا لهم وتسند إليها عضوا ذكوريّا من نوع خاصّ. ومن البديهيّ أنّ منح المرأة هذا العضو لا يمكن أن ينجرّ عنه أيّ مبدإ من مبادئ المساواة بين الجنسين، لا لأنّ النّشاط الذي ينتجه ذو طبيعة خياليّة، بل لأنّ العضو الذّكوريّ الذي يفترضونه لدى المرأة، يبقى غائرا كـ”عيني الخلد” حسب عبارة جالينوس[xix]، خافيا محجوبا في حضارات تمجّد الظّهور والانتصاب والقوّة القضيبيّة. ويمكن أن نعتبر هذه المعاني مكثّفة في دالّ “البيان” باعتباره ظهورا ووجودا وقوّة قضيبيّة ترمز إليها القدرة على الخطابة، وهي قدرة منسوبة أساسا إلى القرآن وإلى الرّسول والرّجال الفصحاء.

ولكنّ قلق الإخصاء وما ينجرّ عنه من هوامات مطمئنة لا يكفيان لتفسير هذه البدعة النّظريّة الغريبة، لوجود سؤال أساسيّ يمكن أن يطرح هو: لماذا لم يكن البظر أساسا لنموذج الجنس الواحد، رغم انّ شبهه بالعضو الذّكوريّ أوضح، ورغم أنّ هذا العضو الصّغير هو الحاضر في جنسانيّة الطّفل الأنثى[xx]، وفي أحلام الكبار والنّظريّات والممارسات الجنسيّة الطّفوليّة التي تمّ وصفها وتوثيقها في أدبيّات التّحليل النّفسيّ؟ لماذا لم يؤسّس منظّرو الجنس الواحد نموذجهم على اعتبار البظر عضوا ذكوريّا والشّفرتين خصيتين؟ إذا كان الحافز على إنتاج نظريّة المرأة ذات الفرج المقلوب إنكار خصاء المرأة وحجب ثقبها الغوريّ الباعث على الخوف، فما كان موقع بظر المرأة من هذه النّظريّة ومن هذه الحوافز اللاّشعوريّة؟

[i] -Laqueur Thomas, Making ***, Body and gender from the Greeks to Freud, Harvard College, 1990.

[ii]-La Fabrique du ***e : essai sur le corps et le ***e en Occident, Gallimard, 1992.

وانظر تقديما مهمّا لكتاب لاكور في:

Giulia Sissa, « Membres à fantasmes », Terrain, n° 18-Le corps en morceaux (Mars 1992), mis en ligne le 21 juillet 2005 ; URL : http://terrain.revues.org/document 3034. html.

[iii]-المرجع نفسه، ص 272.

[iv]-نسمح لأنفسنا بالإحالة إلى بحثنا “إفراط الجندر”، في : مفاهيم عالميّة : التّذكير والتّأنيث (الجندر)، ترجمة أنطوان أبو زيد، إشراف نادية تازي، بيروت-الدّار البيضاء، 2005، ص ص 13-44.

وقد أعدنا نشره في بنيان الفحولة: أبحاث في المذكّر والمؤنّث، دار بترا، دمشق، 2005.

[v]-ابن سينا، القانون في الطبّ، تح محمّد أمين الضّنّاوي، بيروت، دار الكتب العلميّة، 1420-1999، م2، ص 754.

[vi]-التّيفاشيّ، نزهة الألباب فيما لا يوجد في كتاب، تح جلّول عزّونة، تونس، الأخلاّء، 1997، ص 230.

[vii]-يقول الفارابي: ” فإن المني إذا ورد على رحم الأنثى فصادف هناك دما قد أعده الرحم لقبول صورة الإنسان، أعطى المني ذلك الدم قوة يتحرك بها إلى أن يحصل من ذلك الدم أعضاء الإنسان وصورة كل عضو، وبالجملة صورة الإنسان. فالدم المعد في الرحم هو مادة الإنسان، والمني هو المحرك لتلك المادة إلى أن تحصل فيها الصورة.” آراء أهل المدينة الفاضلة ومضادّاتها، ص 17، موقع الورّاق.

[viii]-. ابن سينا، الطّبيعيّات، ص 478، موقع الورّاق. إلاّ أنّ ابن سينا في كتاب القانون يحاول التّوفيق بين نظريّة المنيّ المزدوج ونظريّة أرسطو، فينسب التّصوير والتّصوّر إلى منيّ المرأة والرّجل، ويجعل الفوارق بينهما كمّيّة لا غير. يقول : “لكن زرع الذّكر أقوى في القوّة التي عنها مبدأ التّصوير بإذن اللّه تعالى، وزرع الأنثى أقوى في القوّة التي عنها مبدأ التّصوّر”. القانون في الطّبّ، م2، ص 727.

[ix]-”… الولد لا يخلق من منيّ الرّجل وحده بل من الزّوجين جميعا إمّا من مائه ومائها، أو من مائه ودم الحيض، قال بعض أهل التّشريح: إنّ المضغة تخلق بتقدير اللّه من دم الحيض، وإنّ الدّم منها كاللّبن من الرّائب، وإنّ النّطفة من الرّجل شرط في خثور دم الحيض وانعقاده كالأنفحة للّبن، إذ بها ينعقد الرّائب، وكيفما كان فماء المرأة ركن في الانعقاد…”، الغزالي : إحياء علوم الدّين، بيروت، دار الكتب العلميّة، ط1 1406-1986، م2، ص 58.

[x]-”فتكون جسم عيسى من ذلك الماء المتولد عن النفخ الموجب للذة فيها فهو من ماء أمه وينكر ذلك الطبيعيون ويقولون أنه لا يتكون من ماء المرأة شيء وذلك ليس بصحيح وهو عندنا أن الإنسان يتكون من ماء الرجل ومن ماء المرأة، الفتوحات، ص 1932، موقع الورّاق.

[xi]- الرّازي أبو بكر،الحاوي في الطّبّ، أبو بكر محمد بن زكريا الرّازي ، تح محمّد محمّد إسماعيل، بيروت، دار الكتب العلميّة، منشورات محمد علي بيضون، ط1، 2000 في اختناق الرّحم وزاله وميله إلى الجوانب وانضمام فمه م3 ج9، ص 37. وانظر القانون لابن سينا، م2، ص 121.

[xii]-Abdelkibir Khatibi, « La ***ualité selon le Coran », Maghreb pluriel, Paris, p170.

[xiii]- مصنع الجنس، ص 32.

[xiv]-مصنع الجنس، ص ص 86-87.

[xv]- Freud: La Vie ***uelle, trad. D. Berger, J. Laplanche et collaborateurs, Paris, PUF, 13e éd. 2002, p 19.

[xvi] – « L’analyse avec fin et l’analyse sans fin », in Freud, Résultats, idées, problèmes, tome 2, Paris, PUF, pp 231-268..

[xvii]-المرجع المذكور، ص 19.

[xviii]-Lacan Jacques, Le Séminaire, livre V, Les Formations de l’inconscient, 1957-1958, Paris, Seuil, 1998, p 306.

[xix]-مصنع الجنس، ص 45,

[xx]-يقول فرويد في “وجود قابليّة لعصاب الإلزام” (1913): “إنّ جنسانيّة الطّفل ذي الجنس الأنثويّ، كما نعلم، تخضع إلى هيمنة عضو رئيس ذكوريّ (البظر)، وسلوكها في وجوه كثيرة كسلوك الصّبيّ.” الأعمال الكاملة: Œuvres Complètes, XII (1913-1914), PUF, 2005, p94

تعاليق

المرأة ذات “الفرج المقلوب”: بحث في نظريّة هواميّة غريبة (2)

د. رجاء بن سلامة

يبدو أنّ التّشريحيّين القدامى سواء في الشّرق أم في الغرب لم يولوا اهتماما بالبظر، ولم يصفوه في ما حبّروا من مطوّلات عن الجهاز التّناسليّ. فنحن لا نجده يذكر في “قانون” ابن سينا إلاّ مرّة واحدة، ويبيّن لاكور أنّ اهتمام التّشريحيّين الأوروبّيّين به لم يبتدئ إلاّ في القرن السّادس عشر.

وقد أدّى لاكور وظيفته باعتباره مؤرّخا ذا نزعة اسميّة بالأحرى (nominaliste، ولنقل بشيء من التّبسيط إنّه يميل إلى اعتبار الأشياء غير موجودة مادامت غير مسمّاة) فاهتمّ بالبظر في العصر الذي بدأ فيه العلماء يهتمّون به ويذكرونه صراحة. حتّى إنّه ذكر بعض تشريحيّي القرن السّادس عشر، ممّن كانوا تحت تأثير التّجريبيّة الصّاعدة، وممّن ادّعوا “اكتشاف” البظر. ذكر من بين هؤلاء كولومب Colomb، وقال مازحا إنّه “ليس كريستوف كولومب مكتشف أمريكا، بل رينالدوس”. وأضاف أنّ هذا الاكتشاف “امتصّه” نموذج الجنس الواحد، وقد توصّل إلى التّعايش مع “هذا النّظير الغريب الآتي من مجرّة مفهوميّة أخرى”(1).

هل يتعلّق الأمر بمجرّة أخرى، وهل هي ذات طبيعة “مفهوميّة” فحسب؟ قبل أن يوجد البظر في تنظير الأطبّاء والتّشريحيّين، وفي “مجرّة اخرى”، هو موجود في جسد المرأة، وفي جهازها التّناسليّ الذي أرادوا أن يروا فيه “مقلوب آلة الذّكران”. هذا النّظير المنافس الغريب كيف يمكن أن تبتلعه نظريّة العضو الذّكوريّ المقلوب بيسر؟ كيف يمكن أن تبتلعه دون أن تفضح جزءا من المكبوت الذي تأسّست عليه، ودون أن تضطرّ إلى سدّ باب التّناقضات النّاجمة عن كثرة أعضاء المرأة وإفراط “جنسانيّتها”؟

السّؤال المطروح إذن هو : هل المرأة رجل “مقلوب” لأنّ لها أيرا داخليّا مقلوبا، أم أنّها رجل ناقص لأنّ لها عضوا صغيرا ناتئا يشبه الأير؟ لا شكّ أنّ الفرضيّين يمكن أن “يمتصّهما” التّفكير الهووي الذي يخضع المرأة إلى نموذج قضيبيّ ذكوريّ، وتغيب فيه المرأة باعتبارها “مقولة أنطولوجيّة” مستقلّة، ولكنّهما فرضيّتان متعارضتان على أيّة حال في نطاق المنظومة المعرفيّة نفسها.

متعارضتان تعارضا صامتا، فنحن لا نجد تفكيرا صريحا في هذه الأسئلة، بل نجد حلولا مقدّمة بدون تعليل، متناثرة في النّصوص أو محفوظة في ذاكرة دوالّ اللّغة، لما أسلفناه من أنّ التّفكير، لا سيّما التّفكير في الجنسانيّة، منغرس في اللاّمفكّر فيه، أي في اللاّشعور كما فهمه فرويد، وباعتباره قائما على عمليّة الكبت ورفض التّفكير.

لا مكان للبظر في نموذج الجنس الواحد، لأنّ للأير عند الرّجل نظيرا واحدا هو الأير المقلوب عند المرأة، فهو عضو محرج لهذه النّظريّة، ولكنّنا سنبيّن كيف أنّه عضو محرج خارج هذه النّظريّة أيضا، وأنّ هذه النّظريّة كانت مرآة انعكست عليها كلّ مظاهر الخوف والوحشة والارتياب من الجسد الأنثويّ.

لنذكّر أوّلا بأنّ هذا العضو ليست له من وظيفة سوى إنتاج اللّذّة، فهو لا يساهم -بصفة مباشرة على الأقلّ- في عمليّة التّناسل. إنّه صغير إلى حدّ أنّه يعدّ “هَنة” (اللّسان، بظر)، ولكنّه بارز من الفرج وبارز للعيون، ويمكن له أن ينتصب، وليس وهميّا مفترضا كالأير المقلوب، ولذلك فهو يمثّل منطقة ذكوريّة صغيرة داخل الجسد الأنثويّ. وهو يشبّه بـ”عُرف الدّيك”، علما وأنّ “العرف” ينسب أيضا إلى الأسد وإلى وحوش أخرى، وهو ما يزيد في تأكيد ذكوريّة البظر. وما نلاحظه هو أنّ هذا العضو لا يكتسي أهمّيّة ولا يذكر إلاّ في مجالين مبصومين بالسّلبيّة : مجال الإخصاء الواقعيّ (الختان)، ومجال التّشوّهات الخلقيّة.

إنّ بعض الدّوالّ العربيّة تذكر عمليّة قطع البظر، وما يوافقها لدى الذّكور. وهي تقيم تناظرا بين العضو الذّكوريّ والبظر من ناحية، وتناظرا بين القلفة والبظر من جهة ثانية، وتجعل العضوين عرضة إلى الإخصاء. فقد اعتبر العرب الصّبيّ الذي لم يختن “أبظر”، وأطلقوا اسم “القلفة” على الجلدة التي تقطع من الصّبيّ والطّفلة. [2] وعنَوْا بـ”الختان” عمليّة القطع الواقعيّ المعروف، ولكن عنوا به أيضا “موضع القطع من الذّكر والأنثى”. فالتّشريح وحده لا يكفي للتّمييز بين الجنسين، لأنّ الازدواجيّة الجنسيّة توجد في مستوى العضو نفسه. لا بدّ أن يتدخّل عامل الإخصاء باعتباره وسما يمكن أن يكون القطع الواقعيّ ممثّلا له، فيكون “التّجنيس” ***uation تنازلا عن الأندروجينيّة الأصليّة من شأنه أن يوقف لعبة النّظائر المرآتيّة هذه، وتتوقّف هذه اللّعبة بعد أن يتمّ قطع ما أو تظهر إمكانيّة قطع ما، قطع لما يذكّر بالفرج الأنثويّ لدى الذّكر، ولما يبدو على شاكلة العضو الذّكوريّ لدى الأنثى.

وكما يوجد البظر في قلب مشهد الإخصاء، نجده محورا لكلّ المخاوف النّاتجة عن انعدام الإخصاء وعن التّداخل في الاتّجاهات الجنسيّة أو في الهويّات الجندريّة. وفي هذا السّياق أيضا، يعدّ البظر مضاهيا للعضو الذّكوريّ. فهو كبير الحجم عند صنف من النّساء أطلقوا عليهنّ صفة “البظراء” أو “العُنبلة” (اللّسان، عنبل)، وهو يهدّد نظام التّغاير الجنسيّ، لأنّ العرب القدامى، شأنهم في ذلك شأن الغربيّين، اعتبروا طوله سببا من أسباب المثليّة الجنسيّة الأنثويّة (السّحاق). ومن الملاحظ أنّ هذا النّوع من التّشوّهات يولّد صنفا من الالتباسات الجنسيّة المختلفة عن ظاهرة “المابين جنسيّين” (أي “الخنثى”)، فهذا الصّنف من المخلوقات كان أليفا نسبيّا وقد حدّد له الفقهاء منزلة قانونيّة بين منزلة المرأة ومنزلة الرّجل (مثال ذلك أنّ الخنثى يرث حسب الفقهاء نصف حصّة المرأة ونصف حصّة الرّجل). “الخنثى” كان موحشا أليفا، أمّا النّساء من صنف “البظراء” و”العنبلة” فقد كنّ يمثّلن الموحش الذي يصعب تدجينه وجعله أليفا، وإسناده منزلة قانونيّة خاصّة به. وفي العالم الغربيّ نجد تمييزا واضحا بين المرأة التي “يبرز” منها عضوها الذّكوريّ الباطنيّ، فهي يمكن أن تتحوّل إلى مرتبة الرّجل وأن يعترف لها بالتّحوّل الجندريّ من امرأة إلى رجل. [3]أمّا المراة “البظراء”، فإنّ تضخّم بظرها لا يمكن أن يلحقها بمصافّ الرّجال، بل يمكن أن يؤدي بها إلى مثليّة نسائيّة تودي بصاحبتها إلى المحرقة، شأنها في ذلك شأن السّاحرات.[4]

وتبرز التّشوّهات الخلقيّة مشاهد كائنات أنثويّة فظيعة لأنّها متعدّدة الأعضاء الذّكوريّة. هؤلاء النّسوة لهنّ بالإضافة إلى العضو الذّكوريّ المفترض، وبالإضافة إلى البظر، عضو ذكوريّ داخل الرّحم نفسه، وكأنّ البظر بنتوئه يتضاعف بنتوءات أخرى. فـ”القرقس” مثلا لحم زائد “نابت في فم الرّحم وقد يطول وقد يقصر، وإنّما يطول صيفا ويقصر شتاء”[5]، وإضافة إلى القرقس تذكر النّصوص نتوءات أخرى : منها القَرْنُ، وهو “كالنُّتوء في الرحم… وقيل: القُرْنتان رأْس الرحم” (اللّسان، قرن)، والعَفَل وهو “شيءٌ مُدَوَّر يخرج بالفرج” (اللّسان، عفل)، والرّتقاء “هي التي على فم فرجها ما يمنع الجماع من كلّ شيء زائد عضليّ، أو غشاء قويّ…” [6]وكلّ هذه النّتوءات مناظرة للبظر لأنّها يمكن أن تؤدّي إلى المثليّة الجنسيّة في نظر القدامى، أو على الأقلّ في نظر ابن سينا. ففي النّصّ الوحيد الذي ذكر فيه البظر، ذكر البظر الكبير إلى جانب الأعضاء النّاتئة الأخرى التي “تدارى بالقطع” : “فصل في اللحم الزائد، وطول البظر، وظهور شيء كالقضيب، والشيء المسمّى قرقس”. [7]

يمكن أن نقول تبعا لذلك بوجود ثنائيّة صامتة لاشعوريّة بين العضو الذّكوريّ الباطنيّ النّبيل الذي يمكن له في يوم من الأيّام أن ينبثق من باطنه تدفعه إلى ذلك الحرارة الحيويّة، ولكنّ ذلك نادر ندرة تحوّل النّساء إلى رجال، وبين العضو الذي لا جدوى منه، وهو البظر. لا جدوى منه لا لأنّه لا ينفع في الإنجاب فحسب، بل لأنّه اعتبر نتوءة زائدة على جسد المرأة، ونتوءة زائدة على جسد نموذج الجنس الواحد. إنّه شيء من واقعيّ المراة الذي يستعصي على الفهم والتّرميز.

فهل تجنّب العلماء إخصاء المرأة باستنباطهم نظريّة الفرج المقلوب، أم تجنّبوا النّظر إلى البظر؟ أم مكّنتهم هذه النّظريّة من تجنّب كلّ ما يريدون تجنّبه؟

إنّنا نعتقد أنّ اليد التي بنت نموذج الجنس الواحد منذ اليونانيّين القدامى هي نفسها التي أزاحت البظر عن مجال النّظر الطّبّيّ. لم يتمّ تعويض البظر بالفرج المقلوب، إلاّ لأنّ البظر بديل ممكن عن العضو الذّكوريّ. والعمى النّظريّ الذي جعل القدامى يرون في فرج الأنثى عضوا ذكوريّا مقلوبا يخفي عمى آخر استهدف البظر.

تصرّفت هذه النّظريّة على نحو تناظريّ معكوس : سدّ ثغرة الفراغ عندما يوجد فراغ، وقطع النّاتئ عندما يبرز من الفراغ. عندما تقترب هذه النّظريّة من ثقب المرأة، أي من فرجها النسويّ، تسدل عليه ستارا لكي ترى بديلا عنه عضوا ذكوريّا مقلوبا، وعندما تقترب من البظر، فإنّها تتصرّف تماما كما في مشهد الإخصاء الواقعيّ : تقطعه نظريّا، أي تطرحه بعيدا عن مجال نظرها، محوّلة نظرها إلى العضو الذّكوريّ الموهوم. ذلك أنّ البظر لا يقلّ وحشة عن الفرج الأنثويّ بغوريّته المخبّلة : إنّه عضو ذكوريّ، ولكنّه بضآلته يذكّر بالإخصاء8] ، وعندما يكون ضخما متمرّدا، يمكن أن يحوّل المرأة من المفعوليّة إلى الفاعليّة في العمليّة الجنسيّة المثليّة كما توهّمها الأطبّاء ومؤلّفو كتب الباه عندما تحدّثوا عن السّحاق.

لقد كان من الأيسر منح المرأة عضوا ذكوريّا مقلوبا يمكن أن يعكس على صفحته العضو الذّكوريّ المنتصب، ويبقى مع ذلك غير مرئيّ. فتحْت لافتة هذه النّظريّة “العلميّة” وضعت كلّ الهوامات المطمئنة للرّجال، من حيث أنّهم عاجزون عن “النّظر وإمعان النّظر” في ثقب المراة الغوريّ وفي عضوها الآخر الذي يرى، ويمثّل فضيحة في حدّ ذاته. هكذا كانوا متسلّحين كأحسن ما يكون المتسلّح ضدّ المرأة الفظيعة التي لا ذكر لها، فتثير قلق الإخصاء، والمراة الرّهيبة ذات الذّكر، باعتبارها مهدّدة لنظام التّغاير الجنسيّ أو مذكّرة بصور الأمّ القضيبيّة العتيقة. هذا السّلاح الباعث على شيء من الارتياح لم تكن النّظريّة الأرسطوطاليسيّة قادرة على توفيره، لأنّها نظريّة تشير إلى خصاء المرأة. ولذلك ربّما انهزمت هذه النّظريّة في عصر كانت فيه الفوارق بين النّوعين واضحة لا غبار عليها، وكانت المجتمعات في غنى عن الاختلافيّة الآتية من التّشريح والفيزيولوجيا.

ولكنّ هذه المجتمعات نفسها لم تكن في غنى عن حجاب النّساء وختانهنّ بشتّى الصّور والأساليب. كانت نظريّة الجنس الواحد ذلك المصنع النّظريّ-الهواميّ للوسوم التي ترسم على الجسد النّسائيّ محوّلة هذا الكائن الذي له أشياء جنسيّة أكثر من اللّزوم إلى رجل ناقص أو رجل مقلوب. حجب النّساء وختانهنّ كان القاعدة المعمول بها في كلّ مكان، بما في ذلك الفكر التّشريحيّ والطّبّيّ.

(1)-صناعة الجنس، ص 90 وما بعدها.

[2]ابن الجوزيّ: أحكام النّساء، تح المهندس الشّيخ زياد حمدان، مؤسّسة الكتيب الثّقافيّة، بيروت 1988، ص 35.

[3]م، ن، ص 160.

[4]مصنع الجنس، ص 322، هامش 52.

[5]القانون، 2/ 810.

[6]م، ن، 2/ 799.

[7]م، ن، 2/ 810.

[8]عندما استفاق طفل صغير له ثلاثة سنوات من التّخدير بعد إجراء عمليّة ختان عليه، علا صوته بالبكاء قائلا إنّ عضوه أصبح صغيرا كعضو البنت.

0 التعليقات:

المتابعون